عبد الفتاح أولهاني
الخطابات الملكية في المغرب ليست مجرد رسائل سياسية ظرفية عابرة، بل تشكل في جوهرها خريطة طريق محينة للدولة ومؤسساتها. فهي لا توجه إلى حكومة بعينها، بل إلى كل مؤسسات البلاد، لتذكرها بمسؤولياتها وتوجهها نحو أولويات واضحة. لذلك، فحين يتحدث الملك عن “النموذج التنموي الجديد” أو “الدولة الاجتماعية” أو “السيادة الرقمية”، أو… أو…، فهو لا يقدم برنامجا حزبيا أو حكوميا يسعى من خلاله إلى كسب أصوات الناخبين وتعاطفهم، بل يحدد المسار العام للدولة في المدى البعيد.
الملك لا يخاطب الأمة من موقع الحكومة أو البرلمان، بل من موقع المؤسسة الضامنة لإستقرار الدولة وتوازن سلطها. فهو يرسم الخطوط العريضة للسياسات العمومية بما يتماشى مع مصالح البلاد داخليا وخارجيا، ووفق ما تسمح به التوازنات الجيوسياسية الدولية التي يتحرك ضمنها المغرب.
بمعنى آخر، الملكية ليست سلطة تنفيذية أو تشريعية تتقدم للناس ببرامج قطاعية أو قوانين تشريعية محددة، بل سلطة مرجعية تؤطر الاتجاه العام وتضمن استمراريته.
ولهذا، فالنظر إلى الملكية كما ينظر إلى الحكومة أو البرلمان لا يستقيم دستوريا ولا منطقيا. فهذان الأخيران يحاسبان على الأداء والنتائج، بينما تقيم الملكية من خلال قدرتها على ضبط النسق العام وتوجيه الدولة نحو المصلحة العليا. أما النقد والمساءلة والمحاسبة فهي من صميم الدور الديمقراطي للمجتمع نفسه، لا من وظائف المؤسسة الملكية.
فالملك لا يمارس النقد أو المعارضة، لأن ذلك حق دستوري مكفول للأمة، تمارسه بحرية من داخل مؤسساتها المنتخبة عبر ممثليها أو من خارجها عبر الرأي العام والإعلام والمجتمع المدني، ما دامت الممارسة تحترم القانون.
بهذا المعنى، الخطاب الملكي لا ينتقد، بل يؤطر؛ لا يعارض، بل يوجه نحو التصحيح والإصلاح والتغيير.
كما أن الملك لا يدخل دوره كطرف في لعبة المؤسسات، ولا حتى كحكم بينها، لأن موقعه يتجاوز هذا المستوى. فهو الضامن لروح اللعبة نفسها، وللقوانين التي تؤطرها، وللتوازن الذي يمنعها من الانحراف أو الخروج عن الإطار المرسوم والمتعارف عليه والمتعاقد حوله.
دوره هو الحفاظ على منطق الدولة واستمراريتها، لا على توازنات السلطة داخلها. إنه المرجع الأعلى الذي تستمد منه كل المؤسسات معناها وحدودها، لا جزء من منافستها.
لكن المعضلة الحقيقية لا تكمن في الخطابات نفسها، بل في ترجمتها إلى أفعال. فكثير من التوجيهات الملكية تبقى حبيسة الورق، تستحضر في الخطب أكثر مما تنفذ على الأرض. وهذا ما يجعل العلاقة بين الرؤية الملكية والتنفيذ الحكومي غير متوازنة: فالأولى تتحدث بلغة الاستراتيجية، والثانية تتحرك بعقلية التدبير اليومي.
ومن هنا تكتسب العبارة الملكية الأخيرة في خطاب 10 أكتوبر 2025:
“فالتحول الكبير، الذي نسعى إلى تحقيقه على مستوى التنمية الترابية، يتطلب تغييرا ملموسا في العقليات، وفي طريقة العمل، وترسيخا حقيقيا لثقافة النتائج؛ وذلك بناء على معطيات ميدانية دقيقة، وباستعمال التكنولوجيات الرقمية”أهميتها الكبرى.
فهذه العبارة ليست مجرد دعوة إلى إصلاح أو تغيير إداري، بل إلى تحول عميق في طريقة التفكير داخل الإدارة والسياسة. فالعقليات القديمة التي تقيس النجاح بعدد الإجتماعات أو حجم النفقات، لا بعدد النتائج والإنجازات، هي ما يجعل الفعل العمومي بطيئا ومترددا.
الملك هنا يدعو إلى ما يمكن تسميته بـ “ثورة هادئة في الذهنيات”: الانتقال من ثقافة التبرير إلى ثقافة المحاسبة، ومن منطق الشعارات إلى منطق الفعالية.
لكن هذا التحول لا يمكن أن يتم دون إرادة سياسية واضحة داخل المؤسسات التنفيذية نفسها. فكل إصلاح أو تغيير حقيقي يبدأ من تغيير العقليات التي تدير الشأن العام، لا من تغيير النصوص فقط.
لقد أصبح واضحا أن الخطاب الملكي يقدم الرؤية، لكن التنفيذ الحكومي يظل بطيئا ومترددا، وكأن بين المؤسستين فجوة في الفهم أو في الإرادة.
وما يزيد هذه الفجوة اتساعا أن كثيرا من النخب السياسية الحزبية المتوفرة في الساحة اليوم ما تزال قاصرة عن فهم واستيعاب الرؤى الملكية. فهي تتعامل مع الخطابات التوجيهية بمنطق الشرح والتبرير والتصفيق، لا بمنطق الفعل والتأويل العملي.
وبسبب هذا القصور، تجد هذه النخب نفسها – رغم عقود من تمثيل المواطنين في مختلف المستويات ورغم تجربتها السياسية الطويلة وتشعب علاقاتها ونفوذها – عاجزة عن تحقيق التغيير الملموس في الجهات والأقاليم والجماعات والدوائر التي تمثلها، فتظل مناطقها ومعاقلها الإنتخابية مهمشة، متقوبة، مكحطة كما كانت قبل عقود من تاريخ دخولها عوالم السياسة، وكأن الزمن السياسي فيها متوقف عند حدود الخطاب لا حدود الفعل.
لذلك، فالنقاش لا يجب أن يدور حول ما قاله الملك وما لم يقله، بل حول ما لم ينجز بعد رغم أنه قيل مرارا وتكرارا. لأن الخطابات الملكية تؤسس، لكن التنفيذ هو الذي يقاس به نجاح الدولة. فحين يقول الملك إن “المرحلة المقبلة تتطلب ثقافة النتائج”، فالمقصود هو أن زمن التبرير انتهى، وأن على المؤسسات ومن يمثلها أن يثبت نجاعتها بالأرقام لا بالوعود.
في النهاية، الملكية لا تمارس السلطة التنفيذية ولا تضع وتشرع القوانين، لكنها تحدد البوصلة التي ينبغي أن تسير عليها مؤسسات الدولة.
أما الحكومات، فهي من تحاسب على المسافة بين ما رسم في الخطابات وما تحقق في الواقع. وبين من يخطط ومن ينفذ، يقاس مدى نضج التجربة السياسية وقدرتها على التجاوب مع التحولات التي يفرضها الواقع.
فالخطابات الملكية ليس نصوصا للإقتباس، بل دعوات إلى الفعل. والمسؤولية اليوم تقع على عاتق من يملكون سلطة القرار والتنفيذ، لا على من يحدد الاتجاه. لأن في نهاية المطاف، الملك يرسم الطريق، لكن الحكومة هي من يجب أن تسير فيه.