يتميز إقليم تازة العريق بتاريخ يمتد عبر قرون طويلة، ويزدان بطابع خاص خلال شهر رمضان المبارك، حيث تحيي تقاليد وعادات تجمع بين الروحانية والأصالة المغربية.
فكلما حل شهر الغفران إلا واستعدت كل الأسر التازية لاستقباله بكل سعادة روحية وإيمان قوي. ولعل ما يميز رمضان لدى العائلات التازية العادات والتقاليد المترسخة في وجدانهم، والموروثة أبا عن جد.
ويشكل هذا الشهر الفضيل مناسبة للأسر التازية لإحياء التقاليد والعادات التي ورثتها عن أجدادها، وبالخصوص الحرص على قضاء هذا الشهر رفقة الأبناء والأسرة الكبيرة؛ وتبدأ الاستعداد لصيام شهر رمضان منذ بداية منتصف شهر شعبان، حيث تعكف على شراء ما تحتاج إليه من سلع ومواد غذائية أساسية.
وعن الصيام لدى قبائل البرانس، أفاد محمد الهرنان، الباحث في التراث، إن سكان تازة والمناطق المجاورة، لا سيما قبيلة البرانس، يحافظون على طقوس رمضانية ذات طابع ديني واجتماعي وتراثي. ويضيف أن هذه الطقوس تحمل بصمات أمازيغية أصيلة، رغم تعريب المنطقة منذ العهد المريني.
“ويضيف الهرنان أن شهر رمضان يعرف في البرانس باسم “سيدنا رمضان”، وتستعد له الأسر بما يسمى “التقضية الرمضانية”، حيث يتم تأمين متطلبات الشهر الكريم مسبقا. وفي تقليد عريق، يجتمع أهالي الدواوير لمراقبة الهلال والإعلان عن بداية رمضان، وإن كان الاعتماد اليوم أصبح على وسائل الإعلام وقرارات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية.
وعن يوميات الصيام، يوضح الهرنان أن أغلب السكان يقضون نهارهم في العمل بالحقول أو الرعي، حيث يعتبر رمضان شهرا للعبادة والعمل معا. وتظل صلاة التراويح ذات مكانة خاصة، إذ يلتزم الأهالي بأدائها في المسجد رغم الصعوبات.
كما يشير إلى أهمية ليلة النصف من رمضان، حيث تقام تجمعات دينية لتلاوة القرآن، بينما تعتبر ليلة السابع والعشرين (ليلة القدر) مناسبة خاصة تُحيا بالذكر والدعاء، وتُعد فيها النساء أطباقا تقليدية مثل الكسكس بالدجاج، في أجواء من الفرح والابتهال.
فمائدة الإفطار لدى البرانس يقول الهرنان تعرف تنوعا بين الأطباق المحلية وحساء “الحريرة” المغربي الغني بالبقوليات واللحم، والحلويات التقليدية مثل الشباكية والتمر، بالإضافة إلى الخبز المحلي المعروف بـ”المطلوع”. ولا تزال الأطباق التقليدية مثل “سلو” (أو “أسلو” بالأمازيغية) تحافظ على مكانتها، رغم التغيرات التي طرأت بفعل دخول مواد غذائية جديدة.
لصيام الطفل لدى الأسر البرنوسية أهمية خاصة، حيث تحرص الأسر البرنوسية على تشجيع الأطفال على الصيام، خاصة مع اقتراب سن البلوغ. ويُعتمد على أسلوب “تخياط النهار”، حيث يُقسّم الصيام بين الصباح والمساء على يومين مختلفين، لتعويد الأطفال تدريجياً على الصيام الكامل. كما تحتفي العائلات بالبنت التي تبلغ سن التكليف، من خلال تزيين يديها بالحناء ومنحها دورا أكبر في تدبير شؤون البيت والعلاقات العائلية.
مع انتهاء شهر رمضان، تستعد الأسر البرنوسية للاحتفال بعيد الفطر السعيد. والذي ببدأ بصلاة العيد جماعةً، ثم تتزين الموائد بالفطور التقليدي المكون من الفطائر بالسمن والعسل والحلويات المتنوعة. وتلبس العائلات أزيائها الجديدة وتستقبل الزوار بالترحاب والتهاني، في أجواء مليئة بالحب والمودة.
ويؤكد بالأخير محمد الهرنان، الباحث بالتراث المحلي، أن مدينة تازة وقبيلة البرانس خاصة تظل نموذجا حيا لترابط العادات والتقاليد مع الروحانية الرمضانية. وفي كل عام، يجد الزائر نفسه أمام مشاهد تعيد إحياء الذاكرة الشعبية وتجسد القيم النبيلة التي يقوم عليها المجتمع المغربي، ليبقى شهر رمضان دائماً رمزاً للبركة والتسامح والإخاء.
وتتقاطع عادات وتقاليد الأسر التازية في صيام شهر رمضان بمجموعة من العادات التي لازالت تقاوم الزوال إلى اليوم، وفي هذا الإطار يقول الدكتور عبد الواحد بوبرية، نائب عميد الكلية متعددة التخصصات بتازة، متخصص بالتاريخ، تبدأ الأجواء الرمضانية في تازة قبل حلول الشهر الفضيل، حيث تستقبل الأسر هذا الشهر الكريم بروحانية خاصة، ينطلق التحضير من منتصف شهر شعبان، حيث تُعرف هذه الفترة بـ”الاستعداد القبلي”، وتعمل الأسر على اقتناء المواد الغذائية المتنوعة والأزياء التقليدية، خاصة للأطفال الذين يصومون للمرة الأولى، تشجيعاً لهم على أداء الفريضة. كما تفتح المساجد لاستقبال أعمال الصيانة والتنظيف من قبل المحسنين، في مشهد يعكس روح التعاون المجتمعي.
وتشكل النساء جزءا محوريا من هذا الاستعداد، إذ يجتمعن في المنازل لتحضير المملحات والحلويات التقليدية، وعلى رأسها “الزميتة” أو “سلّو”، التي تُعد وجبة مميزة على مائدة الإفطار، بما تحتويه من مكونات صحية مثل الدقيق المحمص واللوز والسمسم والفول السوداني والبهارات المتنوعة.
ويضيف بوبرية، مع رؤية هلال رمضان، تبدأ المرحلة الثانية من الاحتفال بالشهر الكريم. وتتميز هذه الفترة بروحانياتها العميقة، حيث تقام الصلوات في أوقاتها ويحيى قيام الليل من بعد صلاة العشاء حتى الفجر. كما يقبل أفراد العائلة على قراءة القرآن وتكثيف الأعمال الصالحة، فيما تكثر الزيارات العائلية وتحيي صلة الرحم.
وتشهد الأسواق المحلية استعدادا لهذا الشهر المبارك، حركة غير عادية مع تزايد الطلب على السلع التي تستهلكها، إذ تظهر العديد من المحلات الموسمية على طول الشوارع والأزقة، أبرزها “قبة السوق” الذي يعتبر القلب النابض للمدينة العتيقة تجاريا واقتصاديا وحضاريا وثقافيا.
ومن هذا الفضاء يحرص التازيون على شراء الأثواب البيضاء التي كانت تستعملها النسوة لخياطة أعلام ترفع فوق أسطح المنازل احتفاء برؤية الهلال، واقتناء كل ما يلزمهم لإحياء منتصف الشهر الكريم وليلة القدر ثم عيد الفطر.
كما تقتنى النساء الكسوة البيضاء الخاصة بالصائم الصغير (جلباب وسلهام وبلغة)، والمواد الغذائية التي تستعمل في تهيئ خبز مدهون بالبيض ومملوء بالزبيب واللوز والجوز، يقدم له بهذه المناسبة، وكذا الزي التقليدي الذي يخصص للصبية التي تصوم لأول مرة، والتي تقام لها الاحتفالية نفسها بالتقاليد والعادات نفسها، إضافة إلى اقتناء التاج الذي يوضع على رأسها احتفاء بنجاحها في تمثل القيم الاجتماعية والثقافية الأصيلة المتوارثة.